وماتت النخلة محترقة

الثلاثاء، 11 مارس 2008

0 التعليقات  

مساكة الملك

الاثنين، 10 مارس 2008

0 التعليقات  


يتعقب خطواته كالعادة ... يجده يدلف إلى تلك البناية المهجورة التي اعتادوا الإختباء بها ... تبرق عيناه قبل أن يحذو حذوه و يدخل في إثره . أخيراً حان وقت تنفيذ الخطة ... يسترجع المخطط في عقله سريعاً ... ابتسامة ظفر ترتسم على شفتيه و قد استشعر رائحة النصر و هي تداعب أنفه ... يصعد السلم من خلفه عدواً ... يتوقفان أمام النافذة الموجودة في الحائط المحيط بالسلم بين الطابقين الأول و الثاني ... يتطلعان منها إلى ساحة اللعب و قد حاولا بقدر الإمكان أن يجعلا رأسيهما غير مرئية ... ينتظران أن يُمسك جُل اللاعبين إن لم يكن جميعهم كى ينزلا السلم عدواً ... ينضمان في الخفاء إلى اللعبة القائمة في مراحلها النهائية حتى يحصدا الفوز .


لعبة رائعة تلك التي اعتادوا ممارستها ، لعبة يتعقب فيها أحد اللاعبين الباقين ، يحاول أن يُمسك بهم .من يقع بين يديه ينضم إليه بعد أن يصرخ في الجميع و هو ممسكا إياه : شاهدوني
فيرد عليه المحيطون : شهدنا لك ، آخر الممسوكين يصبح هو الملك ، يجلس على عرش متجدد يصنعه له عقله خصيصا ... يتوج آمراً ... ناهياً ... بإشارة منه يختار من عليه أن يهرع في أثر الباقين و بإشارة أخرى يختار ذلك الذي عليه أن يُمسك بكف من وقع عليه الإختيار , يضربها براحة يده صائحاً : سندق ... بندق ... عَمَّر ... طيروا ... قفش ... إيذاناً بإنطلاقه في أثر الجميع .


اليوم سيصبح الملك ، ستسلط عليه الأضواء ، سيأمر و على الجميع أن يطيعوا ، الكل سيقف خاشعاً أمامه حانياً رأسه في عينيه توسل و رجاء ألا يختار كلاعب يهرع في أثر الباقين دون فرصة في الفوز و إرتداء التاج ,أو أن يختار كمعطٍ لإشارة البدء فيصبح أول الممسوكين بفرصة ضئيلة جداً في الهروب.

معظم اللاعبين قد أُمْسِك بهم ... لحظة التنفيذ قد اقتربت جداً ... يشعر بقلبه يخفق في عنف ، يضع راحة يده اليمنى على صدره و كأنما يحاول أن يتأكد من ثبات قلبه في موضعه ، إضطرابه هذا يعيد عليه ذكرى أول لقاء جمع بينهما . يومها يقرر تحدي سلطة والديه . سيهبط إلى الشارع يلعب مع الأولاد . لن يكتفي بمراقبتهم من فرجة النافذة . سأم العلبة القطيفة المرصعة من الخارج بالذهب و التي يحتفظون به فيها كأغلى جوهرة زينت صدر الحياة .

كان مدركاً لسر تخوفهم من هؤلاء الملاعين كما يسمونهم كما كان موقناً من نجاح خطته ، ينفجر في بكاءٍ شديد ... عيناه الحمراوان ، صدره الذي لا يتوقف عن الإرتفاع والإنخفاض محاولاته الدائبة للحصول على شهقات لا ترضخ إليه في سهولة .في النهاية يهرع الى سلم العمارة في فرح ... لا يهمه كثيراً أن تقف له أمه في النافذة طوال فترة تواجده في الشارع ، تأمره ألا يغيب عن نظرها فلها الحق أن تخشى على طفلٍ مُنح لها بعد طول إنتظار و بعد أن فقدت في سبيل قدومه طفلين آخرين وعدة ألاف من الجنيهات . يجلس على مقربةٍ منهم ، يخشى أن يعرض الانضمام إليهم فيرفضوه ، نظرات أمه الناقمة من فرجة النافذة تدفع في عروقه الكثير من الشجاعة ،" هذه المعركة كلها من أجل أن تغير مكان جلستك ومراقبة العيال من البلكونة إلى الرصيف المقابل لهم؟!" ، يتوجه نحوهم ..." ممكن ألعب معاكم ؟" ... عيون كثيرة يشعر بها تمسحه من شعر رأسه حتى أظافر قدميه ... يلمح بعض السخرية في النظرات ، كان الوحيد الذي وقف إلى جواره ... مد يده إليه مصافحاً ... قَبِلَه لاعباً جديداً بل وكسر القانون الخالد في اللعب_من انضم مؤخراً إلى اللعبة فعليه يكون الدور في الجرى خلف الجميع_ من أجل عيونه ...

همهمات كثيرة تنم عن الإعتراض ... كيف يكون آخر من جاء و لا يهرع في أثر الباقين ... نظرة واحدة من عينيه الحادة كانت كافية لإقناعهم بكل شئ و إخفاء كل شيء عن ذلك الوافد الجديد... إن جرى خلف الجميع فلن يمسك بأحد ... إنه الأصغر سناً ... الأضعف عوداً ... بل و سيكون بطيئاً جداً ..... فرحة غامرة تجتاحه فور إنضمامه للعب ... يمعن في الإبتعاد عن ذلك الذي سيجري محاولاً الإمساك بالجميع فور إعطائه إشارة البدء ... يبتعد ويبتعد . كان أبعد المتسابقين بمسافة كبيرة عندما بدأت المنافسة . ذلك الذي يجري خلف الجميع يتجاهل الكل ... حتى هؤلاء الذين وقفوا بمقربةٍ شديدةٍ منه في تحدٍ واضح ... حدد هدفاً واحداً و خرج في أثره ... الوافد الجديد لا يجد ما يفعله غير أن يجري محاولاً الإبتعاد ... المسافة بينهما تقصر سريعاً رغم محاولات الوافد الجديد المستميتة أن يزيد من سرعته فوق أقصى ما يستطيع ... بطله المنقذ يظهرله... جاء كى يكمل جميله عليه و كأنما أصبح من الواجب عليه حمايته مادام قد قبله لاعباً جديداً . يأتي من خلف ذلك السهم المنطلق... يجذبه من ملابسه بعد أن أصبح إلى جواره في تحدٍ و تعريض واضحين . يسبقه بكل سهولة ... يقف أمامه متحدياً ... لم يكد ذلك السهم المنطلق يمد يداً نحوه حتى راوغه في مهارة ، ظلا هكذا لفترة يدوران حول بعضهما البعض ، يظهران الكثير من المهارة في أساليب الكر والفر ، لكن ذلك المنطلق في أثر الجميع لم يلبث أن حدد هدفه من جديد و هرع في أثر ذلك الذي يحاول الهرب بأقدامٍ لا تقوى على حمله من الإثارة ... يقترب منه كثيراً ... الوافد الجديد ينظر خلفه ,فوجئ بوجهه أمام عينيه ,يصرخ في رعب صرخة حادة طويلة ... العقاب ينقض على حمامته المسالمة .....يمسك بخناقها .

صديقه يعلمه أن وقت النزول قد حان ، لقد أمسكوا بالجميع ولم يبق غيرنا ، يترك صديقه يهبط السلم عدواً ، يتظاهر بنزوله في أثره ، يقف في النافذة مظهراً نفسه ، لو رفع أحدهم بصره لرآه ، لكنهم و كأنما يتعمدون ألا يروه ، يكاد يصرخ فيهم معلناً عن مكانهما . يعمل الفكر سريعاً ... يلتقط قبضة من الأتربة و الحصى الصغير المفروشة به أرض البناية الغير مأهولة ... يلقي به على رأس الواقفين في الأسفل يبحثون عنهما .

_ فوق أهم ... برده لسه بيخموا ... ماينفعش الكلام ده ... إحنا قلنا إن ماينفعش حد يستخبى في العمارات .

يراهم يهرعون نحو باب البناية ، يطلق لساقيه العنان ، يتخطى درجات السلم بقفزات سريعة متتالية، يصل إلى مسامعه أصوات خطوات الصاعدين في أثره ، بالتأكيد صديقه و من خلفه باقي المتسابقين ، يزيد من سرعته أكثر وأكثر فبوصوله إلى الغرفة فوق السطوح سيتوج ملكاً رغم أنف الجميع . يتعمد الإلتصاق بملاكه الحارس ، يستشعره كحلقة الوصل بينه وبين ذلك العالم الجديد الذي إنفتح عليه فجأة ، يستشعره أيضاً كصمام الأمان الذي يكفل له الحماية في ذلك العالم .

_ تعالى نستخبى في العمارة المهجورة هناك دي . ينظر إليه في عجب .
_ يا عبيط ... تعالى بس علشان نكسب .

يتبعه و قد إمتلأ إعجاباً بذلك الذي يفتح أمامه أبواب الفوز على مصرعيها ، ذلك الذي كان يصرخ في حماسة بكل قوانين اللعب و ها هو ذا يكسرها من أجل خاطر عيونه ، سيختبئون حتى تحين اللحظة المناسبة فيتسللون من خلف ظهور اللاعبين و ينضمون مرة أخرى إلى اللعب و ساعتها سيصبح أحدهما ملكاً و الآخر وصيفه ، بالتأكيد ذلك البطل العظيم يستطيع تحقيق الفوز متى أراد ؛ فهو الأسرع والأقوى و الأذكى و الأدهى .

يلمحونهم و هم واقفون في النافذة ، لا سبيل إلى الهرب ، أصوات خطواتهم على السلم تقترب ، يقف مستسلماً ينتظر وصولهم ، بطله يتركه ، يهرع نحو السطح ، يسأله :-" إنت رايح فين ؟!" .." بتجري ليه ناحية السطوح ؟!" ..." مافيش فايدة" . يسأله بصوتٍ أعلى :-" إنت مابتردش ليه ؟!" ..." آجي وراك ؟!"، أذنه لا تتلقى إلا وقع أقدام أولئك القادمون من أجلهما و وقع أقدام بطله المبتعدة ، يمسكون به ، يجرون نحو ذلك الذي هرع نحو السطوح ، يهنئونه بالفوز ،" أنت الملك ,بس إحنا مش قلنا ممنوع العمارات" .
لهذا لم يرد عليه ، لم يرده أن يجري في ذيله . يومها بدأ ذلك الشعور داخله في النمو و أخذ يكبر و يكبر حتى أصبح إصراراً على تحقيق لقب الملك . ربما كان صديقه الأقوى و الأسرع و الأذكى ، لكنه بالتأكيد لو يبقى في ميدان اللعب لتضاءلت فرصته كثيراً خاصةً إذا بدأ في مراوغة لاعبين أو أكثر و قد بدأوا في تضييق الخناق عليه ككماشةٍ محكمة .

يبلغ السطوح ، وقع الخطوات خلفه يعلو أكثر و أكثر معلناً إقترابهم رويداً رويداً ، يدخل إلى الغرفة التي تحتل نصف مساحة سطوح البناية ، يغلق بابها من خلفه ، يلقي بثقل جسده عليه حتى لا ينفتح ، يدفع الهواء بعنف نحو رئتيه محاولاً سد حاجة جسده المتعطش للهواء ، يشعر أنه بشهقتين قد يستهلك كل الهواء بالحجرة . يحاول جاهداً تنظيم تنفسه و الإصغاء إلى وقع الأقدام المتصاعد . يدٌ متلهفة تطرق الباب في عنف ، صوتٌ غليظ يطلب منه أن يفتح ، دفعات قوية توجه إلى الباب, يبدو وكأن ذلك المتلهف إلى الدخول يلقي بجسده كله عليه في ضرباتٍ متلاحقة مفاجئة ، الباب ينزاح قليلاً ، الأمل في النصر القريب يدفع في ذلك الواقف خلف الباب قوةً عظيمة تدفعه إلى التشبث بالباب و بالأرض في محاولات مستميتة كى يمنعه من أن ينفتح ، ييأس من فتحه ، يجري مبتعداً ، يسمع خطوات أول من وصل من اللاعبين و هو يعبر من أمام الباب الذي أحكم إغلاقه نحو صديقه ، يتوقع صيحة شاهدوني ... فيعقبها بخروجه صائحاً شاهدنا لك ليتسلم حلة الملك ، لكنه بدلاً من ذلك لازال يستمع إلى وقع الخطوات والتي بدا و كأن أصحابها يتحركون في دائرة حول شىء ما...كيف أغفل هذه النقطة الهامة ؟! كيف نسى أمر هذا الهيكل الخشبي الملقى بإهمال في منتصف السطوح ؟! الآن سيمضيان شوطاً طويلاً من الدوران حول هذا الهيكل ... ما إن يأته من جهة حتى يهرع صديقه للجهة الأخرى ، أصوات باقي اللاعبين و التي تعلن عن إشتباكهم في الصراع الدائر من أجل الإجهاز على صديقه تبعث فيه الطمأنينة .

طرقاتٌ على الباب ... أصوات كثيرة تدعوه للخروج ... أصبحت الملك للمرة الأولى ... أخرج كى ترتدي الحلة و تتسلم التاج ... أخرج كى تجلس على العرش وتحرك ما تشاء كما تشاء ... يندفع خارجاً ... الفرحة تجتاحه ... الإبتسامة على شفتيه تتسع لتشمل الكون كله ... يشعر بكل المخلوقات تتراقص على نبضات قلبه المفعمة بالنشوة ، يتجه ببصره نحو صديقه يتوقع رؤيته محاطاً باللاعبين و قد سقط بين أيديهم في عينيه إنكسار . لا تتاح له فرصة إلقاء نظرة نحو صديقه ... يتلقفه أحد اللاعبين بالأحضان يصيح :- شاهدوني .
يرد صديقه و معه كل اللاعبين :- شاهدنا لك .

ضحكاتهم الصافية تكاد تهز الكون كله . دائماً يضحكون هكذا عندما يسقط أحد المتنافسين بين أيدي الخاسرين الذين يحاولون تصفية الجميع من أجل إستخراج الملك من بينهم ، لكنه يشعر بالضحكات هذه المرة أعلى نبرةً ، يدرك كل شىء يدركه دفعةً واحدة ، صديقه لم يُمسك بعد ، مازال محتمياً بالهيكل الخشبي ، لم يطوقوه ولم ينقضوا عليه كالكماشة ، يلوم نفسه كيف لم يستنتج الأمر ؟!

كيف لم ينتظر كلمة شاهدوني كى تؤكد له ما تخيله . يريد أن يصرخ فيهم أن يتهمهم بتعمد الإمساك به و الإبقاء على ذلك الذي اعتاد الحصول على اللقب . يكتم في نفسه ، يفصل كل مشاعره عن ملامح وجهه ، يقابلهم بوجه كتماثيل الشمع بلا إحساس يحاول أن يزينه بإبتسامة باردة لا حياة فيها .

إمساكهم به دون صديقه كان من وحى الصدفة و كذلك إختباؤه في الغرفة, فخوفه هو ما دفعه إلى إغلاق الباب حتى في وجه صديقه ، يرتضي و أصدقاؤه هذه التفسيرات التي أجمعوا عليها ، ينطلق معهم ، يتوج الملك الذي اعتاد التتويج ، يعلم أن العقاب ينتظره. بالتأكيد سيختاره كأحد الضحيتين_اما ان يهرع في اثر اللا عبين او ان يعطي اشارة البدء_ حتى لا يجد فرصة للمنافسة على التاج ، بيده أن ينصرف غاضباً ، يقرر أن ينتظر ، أن يركز هجومه على الذي إعتاد التتويج .